شهدت خلافة المستعين بالله قيام الدولة الطاهرية في خراسان، كما استقلت طبرستان تحت حكم الحسن بن زيد الملقب بـ«الداعي إلى الحق»، وحصرت وظيفة السلطان بعائلة بغا التركي، ما مهد لظهور الفتن بين الأتراك أنفسهم، فحاصر المتمردون قصر الخليفة في سامراء فهرب إلى بغداد، عندها بايع الجند الثوّار المعتز بالله خليفة، فأرسل جيشًا بخمسين ألف مقاتل إلى بغداد، التي قام أهلها بخلع المستعين ومبايعة المعتز، حقنًا للدماء، بل أن المستعين نفسه بايع المعتز، إلا أن الخليفة الجديد قتل سلفه
وفي خلافة المعتز بالله قامت الدولة الطولونية في مصر، والتي لم تترك للخليفة سوى الخطبة والسكة، واستولى يعقوب الصفار على بلاد فارس، ما دفع المؤرخ محمد فريد بك للقول بأن أملاك الخلافة العباسية لا تزيد عن ربع ما كانت قبلاً لدولة بني أمية. ورغم مسالمة المعتز للأتراك وتعيين من شاؤوا في مناصب الدولة العليا، إلا أنهم قد خلعوه عام 870م لتردي الوضع الاقتصادي ونضوب خزينة الدولة، وبايعوا المهتدي بالله بن الواثق بالخلافة، وقد مات المعتز في سجنه من العطش والجوع
حاول الخليفة الجديد كسر شوكة الأتراك، فقتل قائدهم بايكال بعد أشهر من توليه الخلافة، فقتله الأتراك ولم يمض على خلافته عام واحد بعد؛ وبويع المعتمد على الله بن المتوكل على الله خليفة، وفي عهده ثار الزنوج في البصرة وواسط وعاثوا فسادًا في بغداد نفسها، احتجاجًا على سوء الأوضاع الاقتصادية والمعاملة الاجتماعية الدونية،[31] كما أكمل الطولونيون استقلالهم بمصر مانعين السيادة الاسمية للخليفة المتمثلة بذكر اسمه في الخطبة، وقد استطاع الطولونيون السيطرة على أغلب بلاد الشام فلم يبق للعباسيين سوى العراق. ويعود لخلافة المعتمد وفاة الإمامين بخاري ومسلم الذين اشتهرا بجمع الأحاديث النبوية، وظهور طائفة الإسماعيلية.
توفي المعتمد على الله عام 892م، وبويع المعتضد بالله خليفة، وكانت خلافته وخلافة ابنه المكتفي بالله تحسنًا في الأوضاع الاقتصادية والسياسية على السواء،[32] كما استعاد العباسيون مصر وهزموا الإسماعيلية في عدة مواقع، وظهرت الدولة السامانية التي استعادت طبرستان وسيطرت على بلاد فارس وخراسان مع حفظ السلطة الاسمية للخليفة، كما أعيدت عاصمة الدولة إلى بغداد.
وإثر وفاة المكتفي في أغسطس 908م، بويع المقتدر بالله خليفة، إلا أنه خلع مرتين: الأولى لدى بداية عهده وبويع عبد الله بن المعتز إلا أنه قتل في اليوم التالي خلال الفتن بين أنصاره وأنصار المقتدي،[33] فكانت خلافته يومًا واحدًا ولم يعتبره جميع المؤرخين خليفة، والثانية عام 929م حيث خلعه الجند ورجال الدولة بسبب سيطرة النساء والخدم على الدولة إلا أنه عاد بعد ثلاثة أيام، واستمر في الخلافة حتى قتل عام 932م خلال معركة بينه وبين مؤنس التركي أحد قواد الجيش،[34] وأصبح أخاه القاهر بالله خليفة، إلا أن مؤنس نفسه خلعه بعد عامين وسمل عيناه وسجنه، وفي خلافته ظهرت الدولة البويهية في بلاد فارس وخراسان، كما استقلت تونس والجزائر وليبيا نهائيًا مع ظهور الدولة الفاطمية التي قضت على حكم الدولة الأغلبية، وبنو رستم وبنو مدرار، والذين وإن استقلوا فعليًا عن الدولة العباسية إلا أنهم حفظوا سيادتها الاسمية.
وفي خلافة الراضي بالله، ظهرت الدولة الإخشيدية في مصر وسيطرت على أجزاء واسعة من بلاد الشام وأصبح نفوذ أمير الأمراء من القوة بحيث أنه عندما مات الراضي بالله عام 940م لم تتم مبايعة الخليفة مباشرة خلافًا للعرف القائم منذ عهد أبو بكر، بل انتظر أسبوعًا لحين عودة بجكم أمير الأمراء من واسط ومبايعته المتقي لله.[35]
السنوات اللاحقة أصبحت صراعًا على منصب أمير الأمراء، فتوالى بعد بجكم، ابن البريدي الذي خلعه الشعب في بغداد لظلمه، ثم كورتكين فابن رابق، الذي هرب والخليفة إلى الموصل احتماءً لدى الحمدانيين من بطش ابن بريدي العائد إلى بغداد؛[36] ولم يلبث ناصر الدولة بن حمدان أن قتل ابن رابق وتولى إمارة الأمراء بنفسه وأعاد الخليفة إلى بغداد، تلاه تورون الذي سجن الخليفة وسمل عينيه وبايع المستكفي بالله عام 944م، إلا أنه خلع عام 946م، وقد توالى في خلافته القصيرة ثلاثة في منصب أمير الأمراء، هم تورون وابن شيرزاد ومعز الدولة بن بويه مؤسسًا الدولة البويهية،[37] وقد خلع معز الدولة الخليفة وعيّن المطيع لله خليفة؛ وقد شهدت خلافته امتداد نفوذ الفاطميين من تونس إلى مصر وبلاد الشام، بحيث أصبح العالم الإسلامي مقسمًا على ثلاثة خلفاء في آن واحد، في قرطبة والقاهرة وبغداد، أضعفهم سلطة خليفة بغداد.
لم تكن خلافة المطيع لله الذي بويع عام 946م مختلفة عما سبقه من عهود، إذ استمرت الحروب بين البويهين والحمدانيين والجند الأتراك، وأغار البيزنطينيون على حدود الدولة واستعادوا أجزاءً من الأناضول وكيليكيا كانوا قد فقدوها سابقًا، وثار الأتراك بقيادة سبكتكين عام 974م على الدولة البويهية وخلعوا الخليفة وبايعوا ابنه الطائع لله،[38] وكانت خلافته تفتقر إلى الاستقرار السياسي مع تتالي الحروب والفتن بين بني البويه من ناحية والأتراك من ناحية ثانية حتى خلعه عام 991م، وبويع إثره القادر بالله خليفة وقد مكث بالحكم أربع عقود، شهدت قيام الدولة الغزنوية وانهيار الخلافة الأموية في الأندلس، واستمرار الحروب بين البويهيين والأتراك، ثم سادت فترة من الهدوء بعد أن قبض بهاء الدولة البويهي على الحكم، وكذلك في عهد خليفته سلطان الدولة وأخاه شرف الدولة والذي بوفاته، ضعفت الدولة البويهية وعظم أمر الأتراك، ووصلت ذورتها في أواخر خلافة القادر، حين قام أرسلان بن عبد الله البساسيري بالخطبة للخيفة الفاطمي في بغداد،[39] فاستنجد الخليفة العباسي بطغرل بك قائد السلاجقة، فدخل بغداد عام 1055م، وثبت الخليفة العباسي، وابتدأ عصر آل سلجوق في بغداد.
شهدت تلك المرحلة أيضًا خصوصًا خلال القرن العاشر هجرة قبائل كردية من جوار بحر قزوين للاستقرار في العراق وشمال بلاد الشام؛ وازدهار هجرة القبائل أدى إلى تعاسة الوضع الاقتصادي والاجتماعي فضلاً عن تكاثر الحروب الداخلية والخارجية. إحدى أمثلة ذلك الدولة العقيلية والدولة المروانية اللتين ورثتا الدولة الحمدانية بعد انهيارها عام 979، وغلب الطابع العربي على الأولى بينما الطابع الكردي على الثانية، وقد اقتتلا طويلاً للسيطرة على الجزيرة السورية، كما قادت الدولة العقيلية حروبًا عدة ضد الدولة البويهية في بغداد. أما الحروب الخارجية، فتتمثل بغارات الإمبراطورية البيزنطية على حلب وأنطاكية واحتلالهما قسطًا من الزمن، بنتيجة تشقق الوضع الداخلي