المماليك في العربية هم من سبوا دون أبائهم أو أماتهم، وكان المصدر الرئيسي لاستيرادهم هو الأسر في الحروب أو الشراء في أسواق النخاسة؛[63] وكانت فكرة تجنيد العبيد قد بدأت منذ عهد المأمون وأصبحت في عهود ضعف الدولة العباسية القوام الوحيد للجيش والمنبع الأساسي للسلطة؛ أما مماليك مصر فقد تمّ استقدامهم على يد السلاطين الأيوبيين وهم في الغالب شراكسة بيض، يتم تعليمهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن وفنون القتال منذ الصغر. تولى المماليك حكم مصر عام 1250 بعد انقراض السلطنة الأيوبية،[64] ولم يعتمدوا في كثير الأحيان، نظام الحكم الوراثي بل نظام التوافق من ناحية والانقلابات بين زعماء الكتائب من ناحية ثانية، وقد توالى واحدًا وأربعين سلطانًا مملوكيًا في ستة وأربعين ولاية، إذ إن عددًا من السلاطين قد خلعوا ثم عادوا إلى عروشهم؛ وقد قضى ثمانية وعشرين سلطانًا منهم اغتيالاً على يد المماليك أنفسهم، ما يعكس التنافس نحو السلطة وفقدان الاستقرار السياسي في طبقتهم، خصوصًا إثر فقدان الشرق موقعه كصلة وصل بين آسيا وأوروبا في أعقاب اكتشاف رأس الرجاء الصالح وعصر الاكتشافات والفتوح الأوروبية للعالم الجدي
رغم ذلك، فقد كان للماليك دور بارز في حماية المشرق خلال بداية عهدهم؛ فبعد أن اجتاح هولاكو بغداد وأسقط خلافتها، اتجه بجيوشه نحو بلاد الشام فاحتلّ نصيبين ثم الرها فحلب ناشرًا من الويلات ما حلّ ببغداد خلال اجتياحه لها.[66] خلال هذه الأثناء خلع سيف الدين قطز السلطان نور الدين علي بن أيبك وقلّد نفسه شؤون السلطنة، ثم حشد الجيش وخرج به من مصر نحو بلاد الشام، حيث كان هولاكو بعد أن دمر حلب قد أحرق دمشق، وقد التقى الجيشان في معركة عين جالوت في الجليل عام 1261 كانت الغلبة في هذه المعركة الفاصلة للمماليك،[67] فأمنت مصر شرّ المغول ووطد المماليك أقدامهم فيها ثم استطاعوا السيطرة على بلاد الشام والحجاز واليمن، مؤسسين بذلك سلطنة واسعة المساحة.[68]
توفي قطز على طريق العودة إلى مصر وأصبح الظاهر بيبرس سلطانًا من بعده؛ كان بيبرس ناجحًا في معاركه مع الصليبيين ففتح يافا وأنطاكية والقلاع المحيطة بها والتي بقيت عصيّة على الفتح حتى سنة 1268.
كان قد مضى ثلاث سنوات والعالم الإسلامي دون خليفة، وكانت تلك أطول فترة شغور منذ تأسيس الخلافة في القرن السابع؛ على الرغم من أن السلطان الأيوبي في دمشق قد بايع أبا العباس أحمد خليفة ليضفي الشرعية على سلطنته ويجابه المماليك ذوي القوة المتصاعدة في مصر. وعندما سيطر قطز على دمشق في أعقاب معركة عين جالوت أراد خليفتها التوجه إلى القاهرة لكنه عدل عن رأيه واتجه إلى حلب التي كانت لا تزال تحت حكم الأيوبيين، حيث بايعه أميرها ولقبه الحاكم بأمر الله. غير أن شهرة هذا الخليفة كانت محدودة فلم يخطب له خارج إمارة حلب على عكس سائر الخلفاء حتى عندما لم تكن لهم أي سلطة، فالخطبة في صلاة الجمعة تعتبر هامة للخليفة، ولذلك فقد عمد أغلب الباحثين إلى إسقاط خليفة حلب من قائمة الخلفاء، واعتبار هذه محاولة إحياء الخلافة. غير أن المحاولة الناجحة كانت على يد الظاهر بيبرس عام 1262، فبعد أن أفاده وزراءه وصول الأمير أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله، عقد بيبرس حفلاً حضره رجال الدولة والشرع أثبت خلاله صحة نسب الأمير ثم تمت مبايعته بالخلافة رسميًا ولقب المستنصر بالله، وأمر بأن يضرب اسمه على النقد ويذكر في خطبة الجمعة.[70]
طلب بيبرس من الخليفة أن يكتب له تفويضًا مطلق الصلاحية في إدارة الدولة وتسيير شؤونها، ومنحه الخليفة هذا التفويض الذي لم يترك له أية صلاحية، واقتصار دوره كرمز للدولة ومصدر شرعيتها.[71] نصّ التفويض أيضًا على أن تعمل الدولة على استعادة بغداد وإعادة كرسي الخلافة إليها، وهو ما تمّ فعلاً عندما خرج الخليفة بنفسه على رأس جيش نحو العراق، إلا أنه قتل في إحدى المعارك مع المغول قبل بلوغه بغداد بعد خلافة قصيرة دامت بضع شهور فحسب؛ ويرى عدد من المؤرخين أن الخليفة الجديد لم يكن راضيًا عن نزوله لبيبرس بالسلطة، وأنه كان يطمح من خلال قيادته الجيش إلى الاطلاع بدور سياسي مستقبلاً. أما في القاهرة فقد بويع الحاكم بأمر الله الثاني بالخلافة ومكث بها ثلاثة عقود.
عمومًا فإن الدولة العباسية بمعنى الدولة قد سقطت مع سقوط بغداد عام 1258، أما الخلافة العباسية فقد استمرت حتى 1517 كرمز للدولة ودورها الديني في كنف الدولة المملوكية؛ ولم تسقط الخلافة العباسية إلا بعد سقوط الدولة المملوكية، ففي أعقاب معركة مرج دابق التي انتصر بها السلطان سليم الأول العثماني على المماليك، توجه بجيشه نحو الجنوب، ففتح أغلب مدن بلاد الشام سلمًا ومنها انعطف نحو مصر حيث هزم آخر المماليك الأشرف طومان باي بعد معركة الريدانية قرب القاهرة، وقد اصطحب معه لدى رجوعه من القاهرة آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله الثالث، والذي تنازل له عن الخلافة وسلّمه رموزها أي بردة النبي محمد وسيف عمر بن الخطاب؛[72][73] وبذلك لم تؤول الخلافة من إلى العثمانيين فحسب بل انتهى الفرع الأول من فروع الخلافة كما صنف المؤرخون وهو «الفرع العربي» أو بشكل أكثر دقة «فرع قريش»، إذ إن جميع الخلفاء السابقين سواء أكانوا من راشدين أو أمويين أو عباسيين ينتمون إلى قبيلة قريش وهي قبيلة النبي محمد، وافتتح الفرع الثاني وهو «فرع آل عثمان